الخيانة والخيانة المضادة / د.مصطفى سالم




ليس هناك اختصارا يوصف حالة العداء بين الأنظمة العربية فيما بينها أكثر دقة ووضوحا من انها حالة الخيانة والخيانة المضادة، فالمشترك بين كل هذه الانظمة هو الخيانة.
وما تقوم به هذه الأنظمة تجاه بعضها البعض يدخل تحت بند الخيانة والخيانة المضادة، فالصراع ليس بين الخير والشر، بل بين الشر والشر.
والخيانة بمعنى سلوك وممارسة هذه الأنظمة بالضد من مصلحة الدولة التي يحكمونها.
ولعل أهم مشكلة تواجه العرب إن النظام السياسي في كل دولة عربية لم يستطع انتاج حكومة لديها القدرة لإدارة الدولة بكفاءة، وليس لديها الخير لينعم الشعب في العدالة.
الدولة في الوطن العربي مازالت أكبر من امكانية النظام السياسي الذي لم يتشكل ليكون معبرا عن الدولة لأنه في تركيبته وفلسفته لم يخرج ممارسة عن كونه عصابة وجدت نفسها ملزمة بانتاج حكومة تدير شؤون الدولة. 




برلمان معطل 
إن بقاء البرلمانات العربية هزيلة وتافهة في احد اسبابه ان النظام السياسي ليس مؤهلا لمغادرة عقلية العصابة، إلى عقلية الدولة. فعقلية الدولة تحتاج برلمان قوي لأن الهدف مصلحة الدولة وعقلية العصابة تحتاج "طبول" كما هو برلمان سوريا ومصر والعراق والأردن ولا يوجد برلمان منتخب في دول الخليج العربي عدا الكويت التي يحل برلمانها كلما ضاق الأمير ذرعا. اما برلمان لبنان فيعبر عن الحركات الطائفية والتي لن تتفق لكون ارتباطها السياسي مع الخارج وليس مع لبنان. وفي المغرب يبدو البرلمان كحلقة يديرها القصر .
عدم وجود برلمانات فاعلة هو الذي يقود إلى هذا التخبط في سياسة الدول العربية.
 أنظمة تؤدي دورا أمام القوى الاستعمارية كحارس مرمى وحيد والجميع يلقي عليه الكرة، لتعيد هي  التسديد على الشعب ولا يحق له حتى صد الكرة.
تحولت الخيانة لدى ما يسمى الأنظمة العربية وبالذات من هم في رأس السلطة الى ثقافة، وللمفارقة هي الثقافة الوحيدة التي يفمهمها هذا الحشد مما يسمى زعماء، أو قادة. 


الدور المؤثر في المنطقة


تأمر مزمن
السؤال المهم ما المصلحة في بقاء النظام في دولة عربية في حالة تأمر مزمن على دولة عربية اخرى وكلاهما يرتبطان بنفس الدولة الكبرى أو القوة الاستعمارية؟
والجواب فيه تفاصيل كثيرة لكن يمكن إيجازه بأن الأنظمة التي تعيش في سلام ما بينها هي الأنظمة التي تعبر عن مصالح الدولة، ومن مصالح الدولة عدم الأضرار بالدولة الجار فكيف أذا كانت شقيقة؟
 لكن في الحالة العربية الأنظمة لا تعبر عن مصالح الدولة، ولا تمتلك شرعية، وتنفيذها لرغبات القوة الاستعمارية محاولة للحصول على الشرعية وفرص بقاء.
لم يكن ذلك بسبب إنهيار النظام السياسي العربي، بل نتيجة عدم وجود هذا النظام وما كان يحدث سابقا من بيانات مشتركة وتحركات ليس اكثر من بنية مشوهة لجثث صنعتها مرحلة التبعية ، قبل أن يتغير شكل الاستعمار من مكشوف الى إدارة متطورة تبدوغامضة ولكنها فاعلة.
 هذه الأنظمة افتقدت لتكون مجتمعة نظاما عربيا وامتنعت مجتمعة أو منفردة ان تكون فعلا عقلانيا .



أنظمة أم عصابة 
لا يمكن النجاح في تفسير ظاهرة الأنظمة العربية من خلال دراستها كأنظمة، بل يجب ان تدرس من خلال كونها عصابة تدير مؤسسات دولة فتتخذ شكل النظام، وإدارتها لها لا يعني نجاحها، بل يعني عدم قدرة الجماهير ونخبها لغاية الآن من خلق نظاما ينسجم مع الدولة أو بحجمها.
الأنظمة التي تعتقل اصحاب الفكر والرأي المخالف، والتي لا يمكن لاحد معرفة طريقة تصرفها بموارد الدولة، والتي تعتقل المرشحين، أو تصفي المنافسين، والتي تستولي عائلة منها على خيرات الدولة، والتي تنشر الطائفية، والتي لا تحترم حتى الدستور التي ربما تكون هي من صممته، لا يمكن وصفها انظمة تصلح لدولة، بل هي عصابة تدير مؤسسات دولة.

ويبدو مصطلح النظام السياسي العربي مشوها وغامضا لو استندنا لكل الحوادث والحالات التي اكدت عدم وجوده، وانه مجالا لعلاقات بين عصابات معادية لوجود النظام العربي الرسمي الجامع ورافضة حتى لتجمع عربي له الحد الادنى من الرصانة.
إن النظام لا يمكن أن ينهار إلا في حالة كونه يتعارض مع بقاء الدولة، أوعندما يكون وجوده خطرا على الدولة، ولكن العصابة يمكن أن لا تنهار لأنها تعبر عن حال و واقع الحياة السياسية والاقتصادية في مكان ما. وجميع من تسمى أنظمة عربية تتعارض مع تطور الحياة، ولكنها مازالت موجودة كأنها عقوبة صارمة لدولة تريد الخروج من مرحلة التبعية للاستعمار، ولأن العصابة أسست جيشها وقواها الأمنية وجماعتها واستطاعت في تحييد العدد الأكبر من افراد المجتمع عن الاشتغال بالتفكير والسياسة.





وماذا عن العراق ؟
وفي العراق يعد السفير الأمريكي ومثله الإيراني اقوى من رئيس وزراء المنطقة الخضراء، وان كانت واشنطن قوية ليكون سفيرها بنفوذ واضح، إلا أن نفوذ إيران في العراق ومع أنه بإرادة أمريكية يأتي كتعبير عن التبعية التي تشعر بها الاحزاب والميلشيات الشيعية لإيران.

استعصاء ولادة نظام 
ولايبدو إننا في مرحلة التخلي عن حكم العصابة لولادة أنظمة سياسية، إذ أن كل سلوك العصابة هو الذي يحكم طريقة تعاطي الحكومات العربية وفي احيان كثيرة يمثل الخوف من التنكيل رد فعل تجاه هذه الحكومات غير الشرعية. والخوف هو ما تريده العصابات في مناطق عملها.
الشعب عليه أن يتحمل زيادة الاسعار ومغامرات الزعماء وليس له الحق في المشاركة بأي قرار غير طاعة ولي الأمر.
و وصلت البذاءة إن يكون الفوز في كرة القدم نصرا للحاكم، أما الهزيمة فعلى الشعب تحمل سلوك من لا يرتقي للنظر بوجه الحاكم المؤله.
الكثير من الناس بوعي او بدون وعي، بصوت أو بصمت يعبد الله ولكنه يؤله الحاكم لدرجة تقديم هذا التقديس على طاعة الله.

التيارات السياسية 
والامر الاكثر سوداوية انه حتى التيارات السياسية العربية دخلت في حالة الخيانة والخيانة المضادة. فالدول العربية التي فيها احزاب تعاني من تحول هذه الاحزاب لبوق مع النظام، بل وكونها معادية لأي مطالبة بالاصلاح.
أما الاحزاب المعارضة فأما في السجن أو تدخل في تحالفات ركيكة، او تفشل في الدخول في تحالفات، لكن الاداء ليس نضالا من أجل التغيير، بل أما لتعرية النظام أو انتظار الجيش لاسقاط نفس النظام الذي يعبر عنه، وبدون وجود رؤية لإقامة التحالف الجامع. إذ مبدأ  اقصاء الاخر هو حالة بين الاحزاب أيضا. ومن يحلم من الاحزاب بحدوث ثورة لا يعمل من أجل تحقيقها، بل ينتظر الشارع أن يغضب ومن ثم يتم ركوب الموجة.
لن تجد انظمة عربية ليست ضمن الصراعات في المنطقة ولن تجد تيارات عربية متوافقة . وكما سيطر الامن والعسكر والميلشيات على الحكم عربيا تحولت التيارات السياسية لدكاكين دعائية بلا تأثير، واقواها الذي يمكن وصفه مجازا بانه اكبر من ان يكون "بقالة" ليس اكثر من "مول" في احسن الاحوال.
الاحزاب او التيارات التي لديها قوة هي التي تجمع بين السلاح والطائفية كحزب الله وكل العصابات الشيعية الحاكمة في العراق، والتي تتمتع اما بتغطية امريكية ايرانية ودولية كما في العراق، او التي تريد واشنطن بقاءها كما في لبنان حيث مصادر تمويل حزب الله وتسليحه يتم التغاضي عنها من قبل واشنطن.
اما التيارات المخابراتية التي تدعي الاسلام كتنظيم الدولة، او الشباب المجاهد فهي حصيلة لنشاط مخابراتي الهدف منه الحد من التيارات الاسلامية السلمية التي كادت ان تكتسح الساحة السياسية الرسمية والحزبية العربية.
ولعل المشكلة الأهم في التيارات السياسية الإسلامية إنها تصورت ان تحديث آلياتها يعني أن تكون مهادنة ومتحالفة سياسيا مع قوى لن تخرج الدولة من كونها تابعا أيضا، كما في تجربة النهضة في تونس.
كل ذلك في غياب القوى اليسارية والقوى التي تريد بناء دولة وطنية بعيدا عن دور المسجد.

الإخوان 
ومن اخطر ما وجهته القوة الاستعمارية هو وصول تيار الإخوان للسلطة في مصر، ليصبح رئيسها إسلاميا، وتأثير وجود الرئيس الإسلامي في مصر يهدد بحق المصالح الاستعمارية لأنه يفتح الباب لتلعب مصر دورا عالميا، ولا يعني هذا الموافقة على فكر التيار المضطرب سياسيا، بل هو الاعتراف بأهمية دورهم، لكن تحالفاتهم تضعهم يستفز الشارع أو الانظمة لاسيما أي تقارب مع إيران  . 

الجغرافية والطائفية 
ان ربط الجغرافيا بالطائفية كان نجاحا للامبريالية (كقوة استعمارية) في العراق وسوريا ولبنان واليمن وهيأت ذلك منذ سنوات حين اوجدت قاعدة لهذه الطائفية في ايران عن طريق صناعة خميني. وفد استفادت واشنطن ولندن من كون ولاء الشيعة كرجال دين واحزاب لايران اكبر من ولاءهم لاوطانهم، وان اتباعهم يفتقدون القدرة على التمييز وتنعدم لديهم ثقافة الوطن. كما لم تتزحزح واشنطن عن حاجتها لدور إيران لتحجيم دور العرب والقيام بما لا تقدر عليه إسرائيل. إذ طوال سنوات الصراع مع إسرائيل لم تستطع من خلق صراعا طائفيا بين السنة والشيعة، ومع جلب خميني وانقلابه الدموي حدث مثل هذا الصراع.

الجامعة العربية 
لا يسمح نظام الجامعة العربية بأن تكون فاعلة، ويبدو ان الهدف من صناعتها ليس الحاجة لمنظمة عربية تكون مجالا ملزما حتى بحدود دنيا للانظمة العربية، بل من اجل الحصول على اغلبية لضرب اي انجاز عربي، وفي احسن احوالها حين كانت تصدر بيانانت منددة باسرائيل كانت غالبية الانظمة العربية واصبحت جميعها تحت الهيمنة الاستعمارية الامريكية.
لم تكن الجامعة العربية ايضا مجالا يمنع النبرة الاقليمية والقطرية، التي اصبحت ما تعتقده الانظمة هوية لبلدانها التي تحكم باكثر الطرق مناسبة لها وهي الدكتاتورية والاعتقالات ونشاط اقتصادي يستولي فيه الحاكم ومن معه على خيرات البلاد والعباد.
إن اخطر مهمة للادوات المحلية في تنفيذ المشروع الامريكي كانت في عام 1990 عندما تم توجية الكويت لاغراق سوق النفط ليصل أدنى سعر، واستدراج العراق لمهمة لم تكن في الطريق الصحيح وبغض النظر عن دور آل صباح السيء.
ومنذ بدء العدوان الثلاثيني على العراق عام 1991 أتضح ان الجامعة العربية هي أداة سياسية مع الانظمة لتدمير اي خروج على قواعد اللعبة الاستعمارية والتي حاول الراحل صدام حسين كسرها لكن أداوت هذا الصراع لا تستلزم فقط القوة العسكرية، بل تحتاج النظام السياسي الديمقراطي، والنشاط الاقتصادي الذي يمكن أن يعوض المصادر الخارجية، وتصور واقعي بأنه لا يمكن الاتكال على الجماهير العربية في القضايا القومية وهي تحت انظمة قمعية 

أنظمة الخليج العربي

لم تظهر انظمة دول الخليج العربي للوجود كتعبير عن تطور في المجتمع بقدر ما هي تركة 
بريطانيا التي لها وظائف محددة لن تكون اكثر انفتاحا لبناء النظام السياسي. ويسمح ضعفها من سيطرة القوة الاستعمارية على وارداتها دون مقاومة ، ودون أن تعرف شعوبها كم هي واردات الدولة.
 لماذا تحصل عائلة حاكمة على أكثر من نصف الواردات؟ كان هذا السؤال له إجابة جاهزة بحق العائلة وملكيتها للأرض، لكن مع تطور مفهوم الوطن والدولة لم يعد هذا مقبولا ..
كما لم تتشكل في هذه الدول قوى محلية تؤمن بأن حكم العائلة بهذه الصورة، يتعارض مع مشروع الدولة الا كحركة معارضة افرادها أما في السجون أو في المنفى.
واللحظات التي توافقت بها هذه الانظمة هي تأييد ومشاركة ضرب العراق عام 1991 و2003 و قصف ليبيا من قبل الحلف الاطلسي  عام 2011.

                                                    -   -   - 

ويبدو إن الخيانة والخيانة المضادة تعني إن الأنظمة السياسية سيعاد انتاجها، لن تخرج من صراع نفوذ الدول الكبرى، لكنها لن تكون كما هي ،  فالدول الكبرى ترسم خريطة جديدة للمنطقة، ليس من بينها وجوه عديدة حتى وأن كانت أكثر خدمة مما يحتاجه نفوذها .

تعليقات